“مع شرارة الحرب تتكثف الأدوات، وتتغير الجبهات، ويصبح الفيروس جنرالا ، والميناء خندقاً، والميدان سوقاً للأموال ، والدولار مدفعًا، والعملة الرقمية بندقية، والتكنولوجيا مؤسسات عسكرية بكافة تشكيلتها ، والعالم مجلس حرب، وفلسطين كاملة وغزة خاصة تسطر ملحمة صمود وصعود، تصبح الحرب مختلفة عن سابقتها ، ليست كما عهدهانا ، فهي حرب لا تُخاض بالبارود، بل بالبيانات والمعلومات وسلاسل الإمداد، بالأسواق والنقد، بالغذاء والتقنية، فهي حرب لاعنفية في شكلها، لكن شرسة في أثرها.
وما نعيشه اليوم هو لحظة مفصلية في إعادة هندسة العالم… بمخاطر لا تهدد ميزانيات الدول فحسب، بل تهدد وجودها السيادي ذاته، وربما وجهودها الجغرافي..
استهلال استراتيجي: حين صار الفيروس جنرالًا .. والعالم مجلس حرب
البداية بتوقيت الحرب ، نهاية 2019، حيث لم يكن فيروس كورونا مجرد وباء صحي، بل إعلانًا صامتًا عن تغيير قواعد الاشتباك الدولي، فتوقّف مصنع واحد في الصين كان كافيًا لإحداث شلل في سلاسل الإمداد العالمية، وما تبعه من انخفاض لسعر النفط بنسبة 65٪ خلال ثلاثة أشهر، ، وتعطيل كامل لسلاسل الإمداد والنقل البحري والبري والجوي ..
النقل البحري: اختناق الشرايين العالمية
• تعطيل الموانئ الكبرى: أُغلقت موانئ رئيسية مثل ميناء شنغهاي، ولوس أنجلوس، وسنغافورة لفترات متكررة بسبب تفشي الفيروس بين العمال، مما أدى إلى تراكم السفن وتأخر الحاويات، ثم تعطل ما يزيد عن 48٪ من حركة التجارة البحرية.
• تضاعف أسعار الشحن: ارتفع سعر شحن الحاوية من الصين إلى أوروبا من حوالي 1,500 دولار إلى أكثر من 12,000 دولار في ذروة الأزمة (زيادة تفوق 700٪).
• نقص الحاويات: اختلت التوازنات بين الصادرات والواردات، مما أدى إلى نقص حاد في الحاويات الفارغة في آسيا، وركودها في أوروبا وأمريكا.
• زمن التسليم: تضاعف وقت الوصول إلى بعض الموانئ من 30 إلى 60 يومًا في المتوسط.
النتيجة: تحوّل النقل البحري من شبكة فعالة منخفضة التكلفة إلى عنق زجاجة يكبّل الاقتصاد العالمي.
النقل البري: تجزئة سلاسل الإمداد وخنق الحدود
• إغلاق المعابر والحدود البرية بين الدول، خاصة في أوروبا وآسيا، أدى إلى تكدّس آلاف الشاحنات عند نقاط التفتيش.
• نقص في السائقين: بسبب الإصابات والإجراءات الصحية الصارمة، انخفض عدد سائقي الشاحنات بنسبة تقارب 30٪ في بعض الدول.
• ارتفاع التكاليف اللوجستية: نتيجة طول أوقات الرحلة، وزيادة الإنفاق على الوقود والتأمين، وأسعار تأجير الشاحنات.
• تباطؤ الإمدادات الداخلية: أُغلقت بعض المناطق داخل الدول، مما أعاق نقل السلع من وإلى المصانع والمزارع.
النتيجة: تفككت سلاسل الإمداد الداخلية، وتراجعت كفاءة النقل البري، خاصة في الدول النامية.
النقل الجوي: توقف مفاجئ ثم اضطراب لاحقة
• توقف شبه كلي للرحلات: أكثر من 90٪ من الرحلات الجوية التجارية أُلغيت خلال الربع الثاني من 2020.
• نقص طاقة الشحن الجوي: أكثر من 50٪ من الشحن الجوي يعتمد على الطائرات التجارية، ومع توقفها اختفى جزء كبير من طاقة الشحن.
• ارتفاع أسعار الشحن الجوي: تضاعفت الأسعار 3 إلى 5 مرات لنقل نفس الكمية بسبب ندرة الرحلات.
• أزمة في نقل المستلزمات الطبية واللقاحات: تأثرت بشدة عمليات نقل اللقاحات والأدوية التي تحتاج إلى ظروف تبريد دقيقة وسرعة في التوصيل.
النتيجة: تعطّل النقل الجوي عرقل استيراد التكنولوجيا الفائقة والسلع الحساسة، وعمّق أزمة سلاسل الإمداد الدقيقة.
استراتيجياً : كانت لحظات انكشاف عالمي.. فالكورونا لم تكن مجرد جائحة صحية، بل اختبارًا لمرونة الاقتصاد العالمي وإنطلاقة حرب دون إعلان أو بيان عسكري: في لحظة واحدة، تعطّلت أكثر من 65٪ من سلاسل الإمداد الدولية، وفُقدت القدرة على التنبؤ بالأسواق، وتحوّلت “العولمة السلسة” إلى “اختناق استراتيجي”.
ومن هنا، بدأ التحول نحو إعادة توطين الإنتاج، وتقريب سلاسل الإمداد ، وظهور مفهوم سيادة النقل والتوريد كعنصر أمن قومي، حيث انهارت المنظومات الصحية والاقتصادية، في أقل من 90 يوماً -ولاعلاقة بين هذه المدة والمهلة التي منحتها الولايات المتحدة للعالم بتأجيل تطبيق الزيادة في التعرفة الجمركية 90 يوماً- ثم تجاوزت خسائر الناتج العالمي 12 تريليون دولار، وظهرت أسئلة لم تكن مطروحة سابقًا: هل نملك غذاءنا؟ هل نملك دواءنا؟ هل نملك قرارنا النقدي؟ وهل يمكن لرقم على شاشة أن يُسقط اقتصادًا؟ أو يسقط دولة ، كما أسقط حكومة ؟ .. لقد كان ذلك استطلاع وانطلاق حرب تكنوبيولوجية صامتة… بلا إعلان رسمي، ودون زحف أو إنزال أو احتلال ميداني عسكري .
استدلال …مخاطر الحرب الاقتصادية العالمية الثالثة …
تمثل هذه الحرب انفجارًا في طبيعة المخاطر وامتدادها، ويمكن تصنيفها إلى خمسة مستويات مركبة:
1. مخاطر الغذاء والسيادة الزراعية
• أكثر من 70 دولة تعتمد على واردات القمح لتأمين غذاءها اليومي.
• تكلفة استيراد الغذاء عالميًا ارتفعت بنسبة 41٪ خلال 24 شهرًا فقط.
• الدول غير المنتجة للأغذية تواجه اليوم خطر نفاد المخزون الاستراتيجي خلال أقل من 90 يومًا في المتوسط.
2. المخاطر النقدية وأسواق العملات
• فقدت عشرات العملات المحلية أكثر من 60٪ من قيمتها خلال ثلاث سنوات، أبرزها في الاقتصادات الهشة.
• بلغت نسب الفائدة العالمية ذروتها منذ 22 عامًا، مما أدّى إلى خروج جماعي لرؤوس الأموال من الأسواق الناشئة.
• الديون السيادية تجاوزت 100٪ من الناتج المحلي في أكثر من 45 دولة، ما يهدد بانفجار أزمات إفلاس متسلسلة.
3. مخاطر سلاسل الإمداد والنقل الدولي
• 12٪ من التجارة البحرية تمر عبر قناة السويس، ومع ذلك تعطّلت في حادث واحد لمدة 6 أيام، فخسرت السوق 10 مليارات دولار يوميًا.
• تكلفة شحن الحاوية الواحدة من آسيا إلى أوروبا تضاعفت أربع مرات خلال عامين، وتستمر في التصاعد.
• 37٪ من الشركات الصناعية الكبرى أعلنت عن تعطّل جزئي أو كلي في خطوط إنتاجها بسبب نقص المكونات.
4. المخاطر الرقمية والسيبرانية
• سجلت شبكات البنوك والبنية التحتية أكثر من 1.5 مليون محاولة اختراق خلال 2023 وحدها.
• ارتفعت تكلفة تأمين البيانات بنسبة 220٪ خلال ثلاث سنوات فقط، مع ازدياد الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في عمليات التشغيل.
• 68٪ من الاقتصادات لا تملك بنية رقمية وطنية مستقلة لإدارة بياناتها الحيوية.
5. مخاطر العقار والموارد الاستراتيجية
• ارتفعت أسعار الأراضي الزراعية عالميًا بنسبة 35٪ خلال سنتين، كمؤشر على سباق الدول نحو سيادة الغذاء.
• أكثر من 22 دولة غيّرت قوانين تملك الأجانب للأراضي خلال العامين الماضيين.
• أصبحت المياه، والقمح، والليثيوم، والمعادن النادرة، أدوات تفاوض سياسي لا تقل عن النفط والغاز.
الحالة المصرية: نموذج حي في مرمى الحرب دون غطاء اقتصادي… في قلب هذه الحرب الاقتصادية، تظهر مصر كواحدة من الدول الأكثر عرضة لانعكاسات الخلل البنيوي في النظام العالمي الإقتصادي المرتقب ، وإن ظهرت في عضوية البريكس إلا أنها :
• الغذاء: أكثر من 62٪ من احتياجات المصريين من الغذاء يتم استيرادها من الخارج.
• الدواء: تعتمد مصر على استيراد ما يزيد عن 80٪ من المواد الخام الدوائية.
• النقد: الجنيه المصري فقد أكثر من 70٪ من قيمته خلال ثلاث سنوات فقط.
• الديون: تجاوز الدين الخارجي 165 مليار دولار، بما يفوق 95٪ من الناتج المحلي الإجمالي.
• التضخم: بلغ ذروته في بعض الأشهر بنسبة قاربت 40٪، ما أنهك القوة الشرائية للمواطن.
• العجز التجاري: يتجاوز 45 مليار دولار سنويًا، ما يضع الدولة تحت ضغط استيرادي مزمن.
بدأ نموذج الإنهيار المصري مع السقوط في الإنقلاب العسكري ، وما صاحبه من تحويل الدولة من منتجة إلى مستهلكة، ومن قرارات وطنية إلى إملاءات خارجية، ومن سيادة القرار إلى التبعية الاقتصادية، تارة بالإقتراض وأخرى بالودائع والإستثمارات دون دراسات ، وأخرى ببيع الأرض وتبديد الثروات ، وما سبق كل ذلك من اعتقال رجال أعمال وإقتصاد ، وخبراء وعلماء ومفكرين ، وإقتصاديين محترفين ومحللين ، ورجال دولة من اختيار شعب وثورة .
استشراف المستقبل الإقتصادي للحرب .. من القرار بال90 يوماً القادمة ، إلى تصاعد حرب ال900 يوماً المقبلة ، والتي ستُعيد صياغة العالم إقتصاديا وسياسياً… ستكون الأكثر حسمًا في التاريخ الاقتصادي الحديث، وأرها ضمن منظور استراتيجي تحمل سيناريوهين رئيسيين:
السيناريو الأول: بناء دولة منتجة ومكتفية ذاتيًا
• تنويع مصادر الغذاء المحلي.
• توطين الصناعات الحيوية.
• إعادة هيكلة القرار النقدي تحت سيادة البنك المركزي.
• تحرير الإرادة السياسية والاقتصادية من التبعية.
السيناريو الثاني: الغرق في الانكشاف والتبعية
• اضطراب الاستيراد والغذاء.
• فقدان السيطرة على التضخم والدين.
• انهيار الثقة في العملة المحلية.
• تحوّل الدولة إلى ساحة لتجارب الخارج وقراراته.
الختام: من لا يُدير مخاطره… تديره مخاطره ويُعاد تشكيله من الخارج
في سطور …
إنها معركة ساسة على سيادة، تشتعل بسلاسل الإمداد، ومخازن الغذاء، وشبكات البيانات، ومراكز القرار، وتستعر بأسواق الطاقة والنفط والغاز ، وتزود بالتكنولوجيا ، وتمول بأسواق المال والعملات ، وفيها من لا يملك غذاءه ودواءه وسلاحه وقراره، لن يكون طرفًا فاعلًا، بل هدفًا خاضعًا.
في كلمات …
ومن لا يُخطط للـ 900 يوم القادمة، سيتحول إلى ضحية في معركة لا ترحم، يكتب فيها خرائط العالم ، من يصنع التاريخ الإقتصادي الحديث، ويقاوم التبعية والتقييد ، كونها لحظات فاصلة بين دول تقود، ودول تُقاد، لابجيش مدجج بأسلحه لدولة المنشأ القدرة على توجيهها وصيانتها وتقادمها وتجديدها ، بل باستراتيجيات وسيناريوهات تكتواقتصادية ، تصنع الفارق بين أمم تُخطط… وأخرى تُستنزف، ومن لا يبدأ الآن… لن يكون حاضرًا حين يُكتب التاريخ… فالأيام دول ..والقرار للشعوب !
“