إن المتابع لاتجاهات العلم والتقنيات الحديثة والصناعات يلاحظ اهتماماً وتنافساً وسباقاً محموماً وتمويلاً هائلاً في مجال علوم النانوتكنولوجي “تقنيات المواد المتناهية الصغر“، لأن امتلاكها هو مفتاح التحكم في الاقتصاد العالمي في القرن الحادي والعشرين. وتكمن أهمية تقنية النانو في أنها آمنة وغير مكلفة وذات عوائد اقتصادية مرتفعة مقارنة بالتقنيات الاخرى. ويزيد من أهمية طرح هذا الموضوع السباق العالمي والتنسيق الفعال بين المؤسسات البحثية والشركات الصناعية لتحقيق الريادة في مجال النانو. وللأسف في الوقت الذي لا توجد فيه شركات عربية متخصصة في تقنية النانو، توجد في إسرائيل أكثر من 100 شركة.
فما المقصود بالنانوتكنولوجي؟ ومتى ظهرت؟ وكيف تطورت؟ وما مجالات تطبيقاتها؟ وما التحديات التي تواجهها؟
تعريف تكنولوجيا النانو:
كلمة “نانو” مشتقة من الكلمة اليوناني(nanos)، والتي تعني “قزم” أو “صغير”)، النانومتر (nm) هو وحدة لقياس الأطوال الصغيرة جداً وهي غالباً ما تكون من أبعاد الذرة، واحد نانومتر يساوي 10-9 متر. هذا يعني النانومتر هو جزء من مليار جزء من المتر، وهو جزء من الألف من الميكروميتر، أي جزء من المليون من الميليمتر.
وحتى نتخيل مقياس النانو، فإن سمك الورقة 100 ألف نانومتر، سمك شعرة الرأس يتراوح بين 50-80 ألف نانومتر، أظافر يديك تنمو نانومتر واحد في الثانية، حجم خلية دم الحمراء 5000-7000 نانومتر، إذا تم رص عشر ذرات هيدروجين بجانب بعضها فإن مجموع قطرها يساوي واحد نانومتر.
وحتى نفهم حجم تأثير النانو فإنه عند تصغير حجم المادة، تصبح مساحة سطحها كبيرة جدًا، مما يحسن من خصائصها. على سبيل المثال، إذا قمنا بطحن 3 جرام من السيليكا (الرمل) إلى حجم النانو، سنحصل على مساحة سطح حوالي 2000 متر مربع، أي ما يعادل مساحة ملعب كرة قدم. وكلما زادت مساحة السطح، زادت فعالية المادة وتفاعلها مع المواد المحيطة بها. في حالة السيليكا، تصبح أكثر من 85٪ من الذرات سطحية، مما يجعلها مادة فائقة الفعالية.
إن تكنولوجيا النانو هي تقنيات التحكم في المواد والأنظمة على المستوى الذري والجزيئي، لتصنيع مواد وأنظمة جديدة ذات خصائص فريدة، حيث تتعامل تقنية النانو مع قياسات بين 0.1 إلى 100 نانومتر أي تتعامل مع تجمعات ذرية تتراوح بين خمس ذرات إلى ألف ذرة. أي أبعاد أصغر بكثير من البكتيريا والخلية الحية.
وبعبارة أخرى فإن تكنولوجيا النانو هي علم وفن التعامل مع المواد والأنظمة والظواهر على نطاق الذرة والجزيء. من خلال التحكم في تركيب المواد على هذا المستوى الصغير، يمكننا بالبحث والتطوير تصنيع مواد وأنظمة جديدة ذات خصائص فريدة. وذلك لأن خصائص المواد تختلف بشكل كبير عند تصغيرها إلى هذا المستوى الصغير جدا.
ومثال على تغيير الخواص فإن لون الذهب في حالته العادية هو الأصفر، لكنه يتحول إلى شفاف حين تكون حبيبات الذهب بحجم أقل من 20 نانومترا، ومع زيادة التصغير يتحول لونها من الأخضر إلى البرتقالي ثم إلى الأحمر. وهو ما يعني أن الأجسام الصغيرة جدا لها خصائص مختلفة.
معلقات جسيمات الذهب النانوية بألوان مختلفة؛ حيث أن اختلاف قطر الجسيمات يعطي اختلافاً باللون.
هل تتخيل أن تتمكن من رؤية الأشياء بحجم ذرة؟ هل فكرت يومًا في كيفية صنع الأدوية التي تساعد على علاج السرطان دون أن تؤثر على خلايا الجسم السليمة؟ أو كيف يتم تصنيع السيارات التي تنبعث منها انبعاثات كربونية أقل؟ هل فكرت في كيفية إرسال مركبات مأهولة بالركاب إلى الفضاء؟
تخيل أن لديك مريضًا مصابًا بمرض خطير. يخبرك الطبيب أن هناك دواء جديدًا يمكن أن يشفيه، ولكن الدواء مكلف ومتاح فقط كسائل. بفضل تكنولوجيا النانو، يمكن للعلماء الآن تصنيع أدوية جديدة في شكل جسيمات نانوية صغيرة جدًا. هذه الجسيمات النانوية أسهل في تناولها وأكثر فعالية في المرور عبر حاجز الدم إلى الخلايا السرطانية، حيث يمكنها مهاجمة الخلايا السرطانية دون الإضرار بالخلايا السليمة.
وهكذا باستخدام تكنولوجيا النانو، يمكننا تطوير أدوية جديدة أكثر فعالية وأقل تكلفة. يمكننا أيضًا تطوير علاجات جديدة للأمراض التي كانت تعتبر غير قابلة للشفاء.
تكنولوجيا النانو عبر العصور:
استخدم البشر تقنية النانو في صناعة الصلب والمطاط منذ آلاف السنين. وقد كشفت أبحاث حديثة، للعالم ماريان ريبولد وفريقه حيث نشر بحثًا في مجلة نيتشر عام ٢٠٠٦، يوضح فيه أن السيف الدمشقي مصنوع من مواد مؤلفة بمقياس النانومتر، بما في ذلك أنابيب الكربون النانومترية. وقد أظهرت الأبحاث أن هذه المواد النانوية، تتشكل تلقائيًا وعن غير قصد أثناء عملية صهر وتشكيل الصلب الدمشقي. وتبين أنها المسؤولة عن الخصائص الفريدة للسيف الدمشقي، مثل قدرته الفائقة على القطع ومتانته المذهلة ومرونته العالية.

كما أن هناك أدلة على استخدم البشر تقنية النانو في تطبيقات أخرى عبر العصور. على سبيل المثال، وجد الباحثون أن بعض الأوعية الفخارية للقدماء المصريون والصينيون مصنوعة من مواد نانوية، وقد أظهرت الأبحاث أن هذه المواد النانوية تجعل الفخار أكثر متانة ومقاومة للتآكل.
كما استخدم المصريون القدماء تكنولوجيا النانو في زخرفة الأواني بألوان وصبغات نانونية لاتزال تحتفظ بألوانها الزاهية والجذابة منذ آلاف السنين.
وهكذا فإن النانو وما هو أصغر منها موجود في كل ما حولنا من خلق الله، وبفضل اكتشاف وابتكار العديد من الأجهزة والميكروسكوبات الحديثة تمكن الإنسان من الوصول إلى تلك المساحة من الفراغ الأصغر، مما أدى إلى ظهور تلك الثورة التكنولوجية المذهلة.
نشأة وتطور علوم وتكنولوجيا النانو:
أصول تكنولوجيا النانو تعود إلى القرن 17م مع اكتشاف روبرت هوك للخلية. وفي القرن 19م، وبالتحديد عام 1867، جيمس ماكسويل اقترح تجربة ذهنية تخيل فيها مخلوقًا ذريًا يقوم بتنظيم حركة جزيئات الغاز بين وعائين، بحيث يمنع ذرات الغاز النشطة من اجتياز البوابة والسماح للذرات الأقل نشاطاً بعبورها، ولدت هذه التجربة فكرة التحكم في الذرات والجزيئات، مما مهد الطريق لظهور تقنية النانو.
في عام 1959، ألقى عالم الفيزياء الأمريكي ريتشارد فاينمان محاضرة بعنوان “هناك حيز كبير في القاع”، تحدث فيها عن إمكانية التحكم
في الذرات بشكل فردي، حيث قال فينمان: “إنه عالم صغير بشكل مدهش ذلك العالم الأدنى”، لقد تساءل فاينمان عما سيحدث إذا
تمكن العلماء من تحريك الذرات بالطريقة التي يريدونها، وأجاب بأن ذلك سيفتح الباب أمام عدد هائل من التطبيقات التقنية ذات الخصائص الفريدة.، مثل صناعة مواد قوية للغاية أو أجهزة إلكترونية صغيرة جدًا، مما سيمكن العلماء والمهندسين من استخدام طرق وأساليب صناعية جديدة وفرصاً غير مسبوقة في تصميم مواد متطورة لها خصائص متنوعة ومتغيرة مع تغير حجم ونوعية المكونات.
لم يتوقع فاينمان أن يتمكن العلماء من تحقيق أفكاره والوصول إلى طريقة لتحريك الذرات إلا في المستقبل البعيد، لكن بعد أقل من عقدين، في عام 1989، تمكن الباحثون من صنع أصغر إعلان في العالم، باستخدام 35 ذرة من عنصر الزينون لكتابة اسم شركة “آي بي إم” فوق سطح من النيكل البلوري.
في عام 1974، استخدم العالم الياباني نوريو تانيجوتشي مصطلح “تكنولوجيا النانو”. وفي عام 1985، تم اكتشاف الفوليرين وهي جزيئات كربونية كروية الشكل تتكون من 60 ذرة كربون، وأنابيب النانو الكربونية،
وهما من أهم المواد النانوية.
ظهرت تكنولوجيا النانو في ثمانينات القرن العشرين من خلال عمل إريك دريكسلر النظري والعام، حيث طور إطارًا مفاهيميًا لهذا المجال في كتابه «محركات التكوين: العصر القادم لتكنولوجيا النانو»، مما أدى إلى تقدم تجريبي واضح. لفت هذا الانتباه إلى تكنولوجيا التحكم الذري وإمكانياتها، مما ساهم في زيادة الوعي العام بتكنولوجيا النانو وآثارها.
في التسعينيات، شهد هذا المجال نموًا كبيرًا، حيث تم تطوير العديد من المواد والتقنيات الجديدة. وفي عام 1996، أنشأت الولايات المتحدة مؤسسة النانوتكنولوجي الوطنية، وتبعتها العديد من الدول الأخرى في إنشاء برامج وطنية، بمليارات الدولارات، يهدف تعزيز البحث والتطوير في هذا المجال.
وقد زاد الاهتمام بهذا المجال خاصة مع اكتشاف الباحث الهولندي والروسي الأصل أندريه غيم مادة الجرافين عام 2004 وحاز عن ذلك على جائزة نوبل في الفيزياء عام 2010.
في عام 2022، بلغ الإنفاق العالمي على البحث والتطوير في النانوتكنولوجي وتطبيقاتها حوالي 30 مليار دولار. وتحتل أمريكا المرتبة الأولى، بمبلغ يصل إلى حوالي 15 مليار دولار، تليها الصين بإنفاق حوالي 10 مليار دولار. ثم اليابان في المرتبة الثالثة بحوالي 10 مليار دولار، بأكثر من 100 جهة بحثية و100 ألف عالم ومتخصص في المجال.
إن تكلفة ما صرفته الجامعات العربية على البحث العلمي طيلة خمسين سنة هو 2.5 مليار دولار، بينما صرفت جامعة إلينوي وحدها على البحث العلمي خلال عام واحد 1.5 مليار دولار.
خصائص المواد النانوية:
تتميز المواد النانوية بخصائص فريدة مقارنة بالمواد التقليدية، منها:
• المتانة العالية: تتمتع المواد النانوية بالقوة العالية، مما يؤدي إلى تطوير مواد جديدة أقوى وأكثر متانة.
• التوصيل الحراري الممتاز: تتمتع المواد النانوية بتوصيل حراري ممتاز، مما يساعد في تطوير أجهزة أكثر كفاءة في استخدام الطاقة.
• الموصلية الكهربائية العالية: تتمتع المواد النانوية بموصلية كهربائية عالية، مما يمكن من تطوير أجهزة إلكترونية أسرع وأكثر كفاءة.
• المرونة: تتمتع المواد النانوية بالمرونة العالية، مما يحفز على ابتكار مواد جديدة أكثر مرونة ومقاومة للكسر.
وغيرها من الخصائص الفريدة التي لا يتسع المجال لذكرها.
تطبيقات تكنولوجيا النانو
إن تلك الخصائص الفريدة للمواد النانومترية تفتح الأبواب أمام تطبيقات واعدة في العديد من المجالات، ومنها:
الطب:
• تطوير أدوية جديدة لعلاج الأمراض المزمنة، مثل السرطان والالتهابات.
• تطوير أجهزة طبية قابلة للزرع أصغر وأكثر كفاءة، مثل القسطرة والصمامات.
• تطوير أجهزة تشخيصية محمولة وقابلة للارتداء، مثل أجهزة الكشف عن الأمراض والإصابات.
الطاقة: تطوير مصادر جديدة للطاقة المتجددة، وتطوير تقنيات أكثر كفاءة لتخزين واستخدام الطاقة.
البيئة: تطوير تقنيات جديدة لمعالجة التلوث وتنقية المياه وحماية البيئة.
الإلكترونيات: تطوير أجهزة إلكترونية أصغر حجمًا وأكثر كفاءة.
المواد: تطوير مواد جديدة ذات خصائص فريدة لتطبيقات مستحدثة.
مجال الزراعة والإنتاج الحيواني: حفظ الاغذية، وتحسين جودة المغذيات الزراعية والمبيدات الحشرية، وتطوير علاجات جديدة للنباتات والماشية.
التصنيع: تطوير مواد جديدة أقوى وأكثر مرونة وأكثر مقاومة للحرارة والتآكل وأخف وزنا، وابتكار تقنيات تصنيع جديدة أكثر كفاءة ودقة.
أمثلة على تطبيقات تكنولوجيا النانو
يوجد بعض تطبيقات تكنولوجيا النانو متداولة بالأسواق هناك بعضها لا تزال قيد التطوير منها استخدام:
• الرقائق الالكترونية الدقيقة في التطورات المذهلة في الهواتف المحمولة والمطوية والخلايا الشمسية.
• جسيمات الفضة النانوية في تصنيع مستحضرات التجميل المضادة للبكتيريا.
• أنابيب الكربون النانوية والجرافين في تصنيع بطاريات أيون الليثيوم عالية الأداء.
• جزيئات البوليمر النانوية في تصنيع ملابس مقاومة للماء والحرارة.
• تقنيات الطباعة النانوية في تصنيع أجهزة طبية دقيقة يمكن حقنها في الجسم.
• تقنيات الفوتونات الحيوية في تعزيز وظائف الخلايا وتجديدها، لتحسين الصحة وجودة الحياة.
تُعد هذه أمثلة قليلة لتطبيقات النانو الواعدة، ومن المتوقع أن تستمر في النمو والتطور مستقبلا.
٢
التحديات التي تواجه تكنولوجيا النانو
على الرغم من إمكانات تكنولوجيا النانو الهائلة، إلا أنها تواجه بعض التحديات، مثل:
• صعوبة قياس الذرات والتحكم فيها عند مستوى النانو، الأمر الذي يتطلب أجهزة دقيقة.
• نقص الكوادر البشرية المؤهلة وضعف التمويل.
• المخاوف من تأثيرات تكنولوجيا النانو على الصحة والبيئة.
• لا تزال تكلفة تكنولوجيا النانو عالية نسبيًا.
• هناك بعض المخاوف بشأن سلامة المواد النانوية، وتداولها الآمن.
• لا تزال معايير السلامة والتنظيم لتكنولوجيا النانو قيد التطوير.
إنه باستمرار البحث والتطوير، سيتم التغلب على تلك التحديات، مما سيؤدي إلى ظهور تطبيقات جديدة وواعدة لذلك العملاق القزم – تكنولوجيا النانو في المستقبل.
